لم يمر احتفال الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين بعيد الفصح – مرور الكرام؛ بل كان هذا العام ملطخًا بدماء الأبرياء، وممزوجًا بالكثير من آهات وآنات المرابطين من الرجال والنساء في ساحات المسجد الأقصى؛ حماية للحرم المقدسي من محاولات هدمه، وحفاظًا عليه أمام حِيَل تهويده.
ففي عشية عيد الفصح اليهودي؛ بات مألوفًا أن يدخل المستوطنون الإسرائيليون ساحة باب المغاربة، المؤدي إلى حائط البراق حاملين القرابين من الحيوانات؛ كي تذبح داخل باحات المسجد الأقصى، في إحياء معنوي لأهم طقس يهودي مندثر، ولكنه يرتبط لديهم بإحياء الهيكل المزعوم. ولذلك لم يعد غريبًا أن تعلن جماعات يهودية متطرفة، مثل حركة أمناء جبل الهيكل قبل أيام من بدء الاحتفال بعيد الفصح اليهودي، عن مكافآت مالية مجزية لتشجيع المستوطنين اليهود على حمل القرابين والتضحية بها وذبحها داخل باحات المسجد الأقصى.
وبالقطع.. يثير ذلك الاستفزاز المتعمد من قبل المستوطنين الإسرائيليين – في هذا التوقيت من كل عام- غضب المسلمين المرابطين في المسجد الأقصى؛ خاصة خلال شهر رمضان، فتشتعل المواجهات العنيفة بين الجيش الإسرائيلي الذي يدَّعي حماية المستوطنين اليهود من جهة، والمسلمين الذين يؤدون صلواتهم داخل الحرم المقدسي من جهة أخرى. ومن جراء تلك المواجهات يقع الكثيرون بين معتقل وجريح ومصاب وقتيل؛ لتتناقل وسائل الإعلام أخبارهم دون أي تحرك دولي فعال، لحماية المقدسات الإسلامية أو للدفاع عن المسلمين، باستثناء الاستنكار والتنديد والإعراب عن الاستياء!
فما هو عيد الفصح الذي بات الاحتفال به أمرًا مزعجًا في القدس المحتلة؟
إن كلمة (فصح) العربية أصلها العبري هو (بيسَح Pesah، أو Pesach بسخة) ومعناها الاجتياز أو العبور، وقد نُقِلت بلفظها تقريبًا إلى معظم اللغات، فهي في القبطية واليونانية (بصخةPascha )، وفي الإنجليزية Pass-over. أما عيد الفصح اليهودي فهو يشير إلى خروج بني إسرائيل من مصر بقيادة النبي موسى، أي اجتيازهم مرحلة الاستعباد ونجاتهم من الهلاك؛ ومن ثم فهو تذكار لعبورهم إلى أرض الحرية. فلقد عانى بنو إسرائيل وفقًا للتوراة اليهودية من الاستعباد في مصر؛ فخرجوا إلى سيناء لمدة أربعين سنة؛ حتى استقروا في بلاد كنعان، وخلال سنوات التيه أنزل الرب الوصايا على موسى وجعلهم شعبًا موحدًا. ولذلك فهذا العيد هو أحد الأعياد الرئيسة في اليهودية ويُحتفل به لمدة سبعة أيام، وهذا العام بدأ الاحتفال به مساء يوم الأربعاء 5 أبريل، واستمر حتى مساء يوم الخميس 13 أبريل.
أي أن بداية الاحتفال بعيد الفصح كانت من عشية يوم 6 أبريل/ نيسان (وهو يوم عيد الفصح) كشكر لله على خروج بني إسرائيل من مصر. ومن الطقوس الدينية في هذا العيد تقديم القرابين وذبح الحيوانات. وحسب التقويم اليهودي يوصف هذا اليوم في سفر الخروج بأنه هوعيد الفطر المذكور في التوراة، فكما جاء في سفر التثنية فقد أنقذ الله بني إسرائيل من الاستعباد في مصر القديمة، ولذلك يعتبر هذا العيد عند اليهود هو عيد نشوء الشعب اليهودي، ومن ثم يتميز بطابعه الوطني إضافة إلى كونه عيدًا دينيًّا، ومن خلال تذكار هذا العيد يتم إحياء الشعور بالتحرر من الاستعباد لدى كل يهودي.
وعادة اليوم الذي يسبق عيد الفصح يصومه اليهود، ويسمى عيد الفصح أحيانًا بعيد الربيع لأنه في التقويم اليهودي يُعتبر شهر نيسان (أبريل) أول أشهر الربيع وأول شهر في السنة العبرية. وقبل السبي البابلي كان يسمى هذا الشهر أبيب، ويعني الحصاد أو سنابل الحبوب الخضراء. وفي عيد الفِصح يمتنع اليهود عن أكل الخبز أو أي طعام مصنوع من العجين المختمر ويؤكل بدلًا منه الفطير غير المختمر طوال مدة العيد، وهي سبعة أيام كتذكار لخروج بني إسرائيل من مصر، إذ لم ينتظروا اختمار العجين فأخذوا الخبز قبل أن يختمر، وفروا من مصر بما لديهم من مؤونة. وقبل هذا العيد يحرص اليهود على تقديم المساعدات للفقراء والمحتاجين ومشاركتهم بهجة هذا العيد. كما يكون اليوم الأول واليوم السابع من هذا العيد عطلة يُحظَر فيها القيام بأي عمل، أما الأيام الخمسة الواقعة بينهما فيوصى بالاستراحة خلالها دون فرض حظر كامل على العمل.
ومن بين الآيات في العهد القديم التي ذكِر فيها الفصح: (فدعا موسى جميع شيوخ إسرائيل وقال لهم: “اسحبوا وخذوا لكم غنمًا بحسب عشائركم واذبحوا الفصح”) سفر الخروج (12 :21)، (وقال موسى للشعب: “اذكروا هذا اليوم الذي فيه خرجتم من مصر من بيت العبودية، فإنه بيد قوية أخرجكم الرب من هنا. ولا يؤكل خمير. اليوم أنتم خارجون في شهر أبيب) سفر الخروج (13: 3-4).
ومثلما بات يهود إسرائيل حريصين على إحياء تذكار الفصح، في باحات المسجد الأقصى، الذي يصرون على تسميته بجبل الهيكل، فربما في يوم ما ليس ببعيد لن يجدوا ما يعوقهم عن الاحتفال بعيد الفصح في سيناء استنادًا إلى ما ورد في سفر العدد (9 :4-5) (فكلَّم موسى بني إسرائيل أن يعملوا الفصح. فعَمِلوا الفِصْحَ في الشهر الأول في اليوم الرابع عشر من الشهر بين العَشاءَين في برية سيناء، حسَب كل ما أمر الرب موسى هكذا فعل بنو إسرائيل). ففي عام 2015 أقيمت طقوس عيد الفصح بالقرب من رام الله، وفي الأعوام اللاحقة له قُدِّمت قرابين الفصح في حارة المغاربة وجبل الزيتون، وفي العام قبل الماضي أقيمت الطقوس بالقرب من حائط البراق، وبداية من العام الماضي كانت باحات الأقصى هي مقصد اليهود المتطرفين لذبح القرابين، وهَلُمَّ جرًّا.
أما المسيحيون فيحتفلون أيضًا بعيد الفصح أو عيد القيامة Easter، فهذا العيد المذكور في العهد القديم في سفر الخروج وأسفار أخرى ذُكِر أيضًا في العهد الجديد في الأناجيل الأربعة، وفي سفر أعمال الرسل، وفي رسالة القديس بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، وفي رسالته إلى العبرانيين.
ولقد ظل المسيحيون الأوائل يحتفلون بعيد الفصح المسيحي (أو عيد قيامة السيد المسيح من الموت بعد صلبه بثلاثة أيام)، وهو أعظم الأعياد المسيحية وأكبرها، تزامنًا مع عيد الفصح اليهودي إلى أن قام الإمبراطور قسطنطين بالدعوة إلى انعقاد مجمع نيقية المسكوني الأول عام 325م فانفصل المسيحيون في فصحهم عن اليهود، وتم اعتماد عيد الفصح المسيحي في يوم الأحد الذي يلي 14 من الشهر القمري ويوم 21 من الشهر الشمسي آذار (مارس). وهذا العيد المتنقل يتم الاحتفال به في الكنائس الغربية التي تعتمد التقويم الجريجوري بين 22 مارس و25 أبريل، أما الكنائس الشرقية التي تتبع التقويم اليولياني فتحتفل به ما بين 4 أبريل و8 مايو. وفي هذا العيد ينتهي الصوم الكبير عند المسيحيين الذي يستمر عادة أربعين يومًا كما ينتهي أسبوع الآلام.
وهذا العام احتفل الغرب المسيحي بعيد القيامة يوم الأحد الموافق 9 أبريل، أما المسيحيون الشرقيون فاحتفلوا به يوم الأحد 16 أبريل الموافق 8 برمودة حسب التقويم القبطي. أما ما يجمع بين عيد الفصح اليهودي والمسيحي فهو رمزية البيضة والاحتفال بالولادة الجديدة والتجدد، وكذلك ارتباط كلا العيدين بلحم الضأن، ففي المعتقد اليهودي طلب النبي موسى من اليهود في مصر دهن دم الخراف على أبواب بيوتهم، حتى ينجوا من عقاب الله، وفي المعتقد المسيحي ارتبط الحمل لاحقًا بالكنيسة التي رأت فيه رمزية للمسيح الذي ضحى بنفسه لأجل الإنسان.
وفي هذا العام تزامن احتفال المسيحيين الشرقيين بالجمعة العظيمة (جمعة الآلام) التي تسبق أحد الفصح (القيامة) مع إحياء المسلمين للجمعة اليتيمة وهي الجمعة الأخيرة من شهر رمضان. وفي القدس المحتلة وفي عناق مألوف بين المؤمنين لم تتعانق فقط منارات الكنائس مع مآذن الجوامع كي تمتزج تكبيرات الآذان مع ترانيم القداسات، بل تضامن أيضًا المسيحيون مع المسلمين لإقامة الشعائر الدينية الخاصة بهم دون قيود معلنين رفضهم للتضييق الإسرائيلي في المساجد والكنائس.
https://www.youtube.com/watch?v=U4EejZhEXsk
وهكذا لم يزل المقدسيون صامدين بكل ثبات أمام تهويد القدس، ويواجهون بكل ما أوتوا من قوة الحصار الإسرائيلي المتغطرس، وعنصرية الاستيطان المستفحل يومًا بعد يوم. ولقد شهدت أيام وليالي شهر رمضان هذا العام –مثل سابقيه من الأعوام– إصرار المرابطين في الأقصى على إقامة شعائر هذا الشهر الفضيل؛ غير مكترثين باقتحام المستوطنين لباحات الحرم المقدسي، في تواصل للجهاد وعدم تفريط في حماية المقدسات الإسلامية بعزيمة لا تلين ويقين لا ينضب.
وهذا المشهد المهيب لطوفان البشر المسلمين السلميين، وهم يقيمون شعائر صلاة يوم الجمعة الأخيرة في شهر رمضان الكريم، لم يزل هو المشهد الذي يؤرق كل من تسوِّل له نفسه الاعتداء على حرمة بيوت الله التي أذن لها أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه.
“وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ” (114) سورة البقرة