لم يكن ضابط المخابرات البريطانية الميجور “جيمس ماكدونالد ويليامز” يدرك لدى خروجه من مقره في مدينة بورسعيد المصرية صبيحة الرابع عشر ديسمبر عام ١٩٥٦، أن هناك عيونا ترصده وتراقب تحركاته.
كانت تلك العيون هي عيون الشاب المصري السيد عسران الذي لم يتجاوز عمره حينها الـثامنة عشر ربيعا، والذي نشأ في أجواء الكفاح والنضال الوطني ضد الاحتلال الإنجليزي.
حيث كان يستمع على مقهى أبيه المعلم عسران، الذي قدم من سوهاج الى بورسعيد – إلى أحاديث أهل المدينة عن الفدائيين وعملياتهم البطولية ضد قوات الاحتلال.
كان يتردد في أحاديثهم اسم “ويليامز” الذي كان متمركزا في منطقة القناة، في ذلك الوقت باعتباره جلادا يذيق من يعتقله من المقاومين صنوفا مختلفة من العذاب.
ولعل هذه النشأة هي التي شجّعت عسران على الانضمام إلى الحرس الوطني، والالتحاق بألوية المقاومة في قطاع غزة الذي كان لا يزال حينها تحت الإدارة المصرية.
وقبل وقوع عدوان عام ١٩٥٦، بثلاثة أيام لا غير عاد عسران إلى بورسعيد، وعهدت إليه قيادة العمل الفدائي بصندوق قنابل يدوية لاستخدامها ضد قوات العدوان.
وبمجرد دخول القوات الإنجليزية الى بورسعيد، وتحديدا في السابع من نوفمبر عام ١٩٥٦، لجأت تلك القوات إلى الخديعة حين رفعت على مدرعاتها ودباباتها العلم السوفيتي، وحين خرج الأهالي للترحيب بمن ظنوا أنهم حلفاؤهم؛ سحقتهم الدبابات تحت جنازيرها.. وكان من بين الشهداء شقيق سيد عسران الأكبر.
أخفى عسران خبر استشهاد أخيه عن أبيه المُسِن وأوهمه أنه هجر المدينة مع من هجرها من المدنيين، واستعد للأخذ بثأر أخيه وثأر الوطن بأكمله من المعتدين.
وحانت الفرصة لعسران حين تلقَّى تعليمات من الفدائي محمد حمد الله قائد عملية أسر “مورهاوس” تفيد بأن الميجور ويليامز الذي كان جلاد بورسعيد لعشرين عاما كاملة عانى خلالها أهلها من بطشه، يبحث عن السيارة التي نُفذت بها عملية الأسر، وبات على وشك الوصول إليها؛ ما يُعرِّض مجموعة الفدائيين التي نفذت العملية للخطر.
أدرك عسران أن الوقت قد حان لتصفية المجرم الاستعماري “ويليامز” فجهّز إحدى قنابله اليدوية في الرابع عشر من ديسمبر وأخفاها في رغيف خبز تظاهر بتناوله لتضليل قوات العدوان.
رصد عسران تحركات “ويليامز” حتى وجده يغادر مقر شُعبة البحث الجنائي في بورسعيد، وهنا دسَّ عسران يده في جيبه وأخرج ورقة لوح بها لـ”ويليامز” الذي ظن أن بها معلومات تفيده في العثور على “مورهاوس”.
أمر “ويليامز” سائق سيارته بالتوقف، وأشار إلى عسران؛ ليقترب منه.. وبالفعل ألقى عسران بالورقة إلى داخل السيارة، وما أن انحنى “ويليامز” ليلتقطها حتى عاجله عسران؛ فانتزع فتيل القنبلة من رغيف الخبز وقذف بها سيارة الميجور الإنجليزي.
غادر عسران الموقع مُسرعا، وما هي إلا بضع ثوان حتى انفجرت القنبلة، وعبثا حاول “ويليامز” أن ينقذ نفسه بالخروج من السيارة المحترقة؛ لكن الانفجار أطاح بنصف جسده السفلي وبقي ينزف حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
اندسَّ عسران وسط الجماهير المحتشدة، وأخذ ينتقل من شارع لآخر حتى وصل الى أبيه، ومن الطريف حقاً أن الفدائي الشاب الذي لم يخش الميجور الإنجليزي كان أكثر خشية من أبيه الذي أدرك ما فعله ولده.. وهنا لم يجد عسران أمامه سوى أن يصارح أباه بحقيقة استشهاد أخيه؛ موكدا له أنه أخذ بثأره وثأر كافة شهداء الوطن.
آتت عملية عسران ثمارها، وتسببت في تراجع قوات العدوان عن الشوارع التي سيطرت عليها، وعلى مدار اليومين التاليين تعرضت هذه القوات لهجمات بالقنابل؛ ما اضطرها إلى الاختفاء وعدم الظهور في شوارع بورسعيد بشكل علني مرة أخرى.
وبحلول الثالث والعشرين من ديسمبر وصلت قوات الطوارئ الدولية إلى بورسعيد، وانسحبت القوات المعتدية، واحتفت المدينة بأولادها الذين حققوا النصر.. وكان في مقدمتهم عسران ورفاقه.