في سبتمبر 1995، بدأت إسرائيل احتفالية الألف الثالثة لإعلان القدس عاصمة لمملكة يهوذا (منذ العام 966 قبل الميلاد) واستمرت الاحتفالية حتى نهاية العام التالي. وقد استهدفت إسرائيل من وراء هذه التظاهرة، ترسيخ ادعاءاتها بحقوق الشعب اليهودي التاريخية والدينية في مدينة القدس، ملكًا خالصًا له وعاصمة أبدية لدولته.
ومن تتبع مظاهر هذه الاحتفالية، وجد أن التعبئة التاريخية والدينية والسياسية بلغت أقصى طاقاتها، إسرائيليًا ويهوديًا وصهيونيًا وعالميًا.. ولعل القصد من وراء كل ذلك، هو محاولة إسرائيل إثبات تزويرها للحقيقة وللتاريخ، ومحاولة استقطاب الاعتراف الواقعي بمركزية القدس ومكانتها في التاريخ اليهودي وفي الدولة العبرية، تمهيدًا لمحو عروبة القدس، بل ومحو القدس العربية من ذاكرة التاريخ محوًا كاملًا.
السيادة العربية الإسلامية
والواقع –الذي لا مراء فيه– أن السيادة العربية الإسلامية على القدس، لم تنقطع منذ القرن السابع الميلادي، حتى ما بعد منتصف القرن العشرين الفائت، أي حتى احتلال القدس من جانب إسرائيل في يونيو 1967.
وإذا شئنا الدقة، فإن السيادة العربية الإسلامية على مدينة القدس، كانت قد بدأت مع الفتح العربي الإسلامي للمدينة قبل خمسة عشر قرنًا من الزمان.
فبعد هزيمة الروم في معركة اليرموك، أصبح الطريق مفتوحًا إلى بيت المقدس. وطلب أبوعبيدة بن الجراح من الخليفة أن يأتي إلى المدينة، لأن سكانها يأبون التسليم إلا إذا حضر شخصيًا لتسلم المدينة. فما كان من الخليفة عمر بن الخطاب إلا أن ذهب إلى القدس في عام 15 هـ / 636م، وأعطى الأمان لأهلها، وتعهد لهم بأن تصان أرواحهم وأموالهم وكنائسهم، وبأن لا يسمح لليهود بالعيش بينهم. ومنح عمر بن الخطاب سكان المدينة الحرية الدينية مقابل دفع الجزية.
ليس فقط بل إنه رفض أن يصلي في كنيسة القيامة؛ لئلا تتخذ صلاته سابقة لمن يأتي بعده، وذهب إلى موقع المسجد الأقصى، فأزال بيده ما كان علي الصخرة من أقذار، وبنى مسجدًا في الزاوية الجنوبية من ساحة الحرم.
ولعل من الواجب ذكره هنا، أن عمر بن الخطاب كان قد دخل مدينة القدس، ومعه أربعة آلاف رجل من الصحابة شكلوا نواة الجيش الإسلامي والتجمع الإسلامي؛ حيث رابط على جبل الزيتون (طور زيتا) ليشكل القوة المركزية التي فرضت بعد ذلك سيطرتها على أجزاء فلسطين، بقيادة أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص الذي انطلق إلى مصر من عمواس بعد أن أمره الخليفة بذلك.
إسلامية القدس وعروبتها
وكان هذا المركز مقرًا للقيادة الإسلامية العليا، طوال الفترة التي قضاها عمر بن الخطاب مقيمًا في القدس وفلسطين؛ وظل هذا المعسكر محطة جذب للمهاجرين من المسلمين طوال العهود اللاحقة؛ وبذلك صارت القدس عربية اللسان، إسلامية العقل والقلب قبل أي مدينة أخرى من مدن الشام.
وتُجمِع الروايات الإسلامية، على أن عمر بن الخطاب كان قد قسّم فلسطين إلى نصفين، وجعل على كل منهما أميرًا؛ فقد عين علقمة بن حكيم وأنزله الرملة، وجعل علقمة بن مجزر على نصفها الآخر وأنزله إيلياء (القدس) عاصمة لفلسطين منذ لحظة دخول الخليفة إليها بعد الفتح. وقد تم تعديل حدود الأجناد في الشام، وجرى تسمية القدس، عاصمة لهذه الأجناد في بلاد الشام.
الملاحظ أن عمر بن الخطاب كان قد استثنى فلسطين وعاصمتها القدس من التبعية للشام، ولذا لم يُدخِلها ضمن الصلاحية الإدارية لمعاوية بن أبي سفيان، والتي كان قد منحها إلى يزيد بن أبي سفيان.
ومن ثم، فقد تمتعت فلسطين بالاستقلال القضائي إبان عهد الخليفة عمر؛ وكان هناك قاض مسلم عينه الخليفة بنفسه وهو عبادة بن الصامت، ما يدل على أهمية هذه المدينة ومكانتها.
ويبدو أن حال القدس بخاصة، وفلسطين بعامة، لم يتغير خلال حكم عثمان بن عفان وعلى بن أبي طالب، بل بقيت على حالها إداريًا حتى مجيء الحكم الأموي. ولا نجد سوى ذكر قليل لعلي بن أبي طالب في وصف المدينة؛ حيث يقول “أحسن وسط الأرضين أرض بيت المقدس، وأرفع الأرض كلها إلى السماء بيت المقدس”.
القدس والعهد العُمري
وفي هذا الشأن، نجدها فرصة مناسبة لتناول العهد العُمَرِي، أي العهد الذي قدمه الخليفة عمر بن الخطاب إلى أهل المدينة، وهو العهد الذي يُنسب –في بعض الأحيان–إلى المدينة، فيقال عنه عهد إيلياء (القدس).
وحسب ما تشير الموسوعة الفلسطينية، فإنه منذ انتصار المسلمين على الحامية البيزنطية في دائن بأرض العربة في فلسطين حتى عام 16 هـ / 637م، كان قد تم تحرير فلسطين باستثناء قيسارية وبيت المقدس. ثم دخلت الأخيرة في أمان المسلمين عام15 أو16 أو17 هجرية.
وتختلف الروايات حول من أعطى الأمان من جانب المسلمين لأهل بيت المقدس، وحول من قام من أهل بيت المقدس بأخذ الأمان، ثم تختلف بعد ذلك في مضمون العهد وشروط الأمان.
فمن جانب المسلمين، قيل أن العهد كان على يد قادة المسلمين في بلاد الشام؛ وقيل أنه كان على يد الخليفة عمر بن الخطاب.. وفي ما يبدو، فإن الذي تولى الصلح هو عمر بن الخطاب بنفسه بناءً على إصرار أهل إيلياء، وكتب عمر لهم العهد وأشهد عليه قادة المسلمين.
أما من جانب أهل إيلياء، فقيل أن صفرونيوس بطريرك إيلياء هو الذي تولى الصلح مع المسلمين وطلب من أهل إيلياء أن ينزلوا ويعقدوا الأمان معهم؛ وقيل بل كان قد لحق بمصر، وأن الذي تولى مصالحة المسلمين هم العوام من أهل إيليا والرملة؛ وقيل إن أبا الجعد (رجل من المستعربة) نزل في ناس من عظماء إيلياء وصالحوا المسلمين. وفي ما يبدو، فإن صفرونيوس هو الذى تولى الصلح مع المسلمين، كما يذكر اليعقوبي في كتابه “تاريخ اليعقوبي”.
أما بخصوص العهد، فقد ذكر الأزدي وابن أعثم أن أهل إيلياء سألوا العهد والميثاق والذمة والإقرار بالجزية، فأعطوا ذلك ودخلوا في ما دخل فيه أهل الذمة من أهل الشام. يقول بن أعثم: “وكتب لهم –أي عمر بن الخطاب– كتابًا يتوارثونه إلى يومنا هذا (عصر ابن الأعثم) والله أعلم”.
ورغم أن صيغة العهد قد وردت عند اليعقوبي في كتابه “تاريخ اليعقوبي” (بيروت: 1960) كما وردت عند عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه “فضائل القدس” (بيروت: 1979) إلا أننا نفضل تثبيت نص العهد كما جاء عند الطبري في كتابه “تاريخ الرسائل والملوك” (القاهرة: 1960) من حيث أنه أوسع مما جاء عند الأخيرين، إضافة إلى أنه يشملهما.
وهذا هو النص:
“بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء، أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن [مدائن الشام] وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت [اللصوص]. فمن خرج منهم، فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم.
ومن كان بها من أهل الأرض، فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية” (شهد على ذلك: عمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان)…”.
يتبع.